Monday, October 21, 2019

كيف كشف نهر النيل بعض أسرار المصريين القدماء؟

"فليحيا الإله الكامل، الذي في الأمواه، إنه غذاء مصر وطعامها ومؤونتها، إنه يسمح لكل امريء أن يحيا، الوفرة على طريقه، والغذاء على أصابعه، وعندما يعود يفرح البشر، كل البشر"، ترنيمة دوّنها المصري القديم في نصوصه الأدبية تبرز قدر عرفانه لنهر النيل، جاعلا منه الإله الخالق لمصر، واهب الحياة والخُلد لها منذ القدم.
أدرك المصريون أهمية النيل منذ عصور موغلة في القدم، فاجتهدوا في ابتكار طرق تهدف إلى الاستفادة من مياه النهر وتنظيم الري وحفر الترع لزراعة أكبر مساحة ممكنة من أرض الوادي، ولم يبالغ العالم الفرنسي جاك فاندييه في دراسته "المجاعة في مصر القديمة" عندما أشار إلى أن "النيل هو الأساس الذي اعتمدت عليه الحياة المادية والاجتماعية في مصر".

البداية

توافرت مقومات الحياة البشرية في منطقة شمال أفريقيا خلال العصر الحجري القديم، نظرا لنمو الأعشاب والأشجار واستيطان قطعان الغزلان والأبقار والأغنام، فاعتمد الإنسان على صيدها باستخدام آلات بدائية عُثر على كثير منها في صحراء مصر الشرقية والغربية.
بيد أن التغيرات المناخية دفعت السكان نحو الأنهار، نتيجة الجفاف وندرة الأمطار، فظهر نمط جديد من المجتمعات في مصر، وهو شكل من أشكال الحياة البدائية التي ربما تعود جذورها وأقدم مفاهيمها وآلهتها إلى مستهل العصر الحجري الحديث منذ حوالي عام 5800 قبل الميلاد، لاسيما في مناطق الفيوم ومرمدة والعُمَري في مصر الوسطى والشمالية، والهمامية والبداري وتاسا في الوجه القبلي جنوبا.
أطلق المصريون القدماء على نهر النيل في اللغة المصرية القديمة "إيترو عا" بمعنى (النهر العظيم)، وتشير الأصول اللغوية لكلمة النيل إلى أنها من أصل يوناني، "نيلوس"، بيد أن آخرين تحدثوا عن أصول فينيقية للكلمة اشتقت من الكلمة السامية "نهل" بمعنى (مجرى أو نهر).
وذهب المؤرخ اليوناني ديودور الصقلي إلى أبعد من ذلك حين أشار إلى إن النيل أُطلق عليه هذا الاسم تخليدا لذكرى ملك يدعى "نيلوس" اعتلى عرش البلاد وحفر الترع والقنوات فأطلق المصريون اسمه على نهرهم، وتُستخدم "نيلوس" كاسم علم مذكر بحسب عقد بيع مدوّن على بردية يعود إلى العصر الروماني، يحتفظ به المتحف المصري، بين رجل يدعى "نيلوس" وآخر يدعى "إسيدوروس".
ويرى العالم المصري رمضان عبده، في دراسته الموسوعية "حضارة مصر القديمة"، ضمن إصدارات وزارة الآثار المصرية، أن كلمة النيل مشتقة من أصل مصري صميم من العبارة "نا إيترو" والتي تعني (النهر ذو الفروع)، كما أطلق المصريون على مجرى النهر اسم "حبت إنت إيترو" (مجرى النهر)، وأطلقوا على فروع النيل في أرض مصر "إيترو نوكيمت" (فروع الأرض السوداء).
تشير الوثائق التاريخية إلى حدوث اتصال ما بين المصريين القدماء ومناطق تقع في جنوب مصر، بلاد "كوش" و"يام" و"بونت"، الأمر الذي يرجح بعض دراية للمصريين بإقليم بحر الغزال، أحد روافد النيل في جنوب السودان، منذ عصور الدولة القديمة، ونتيجة حرص المصريين على التوغل في النوبة والسودان، ظهر رحّالة ومستكشفون في الأسرة السادسة معظمهم من أمراء أسوان جنوبي مصر.
نظم حاكم الجنوب ويدعى "حرخوف" أربع حملات استكشافية إلى أفريقيا بناء على أوامر من الملكين "مر-إن-رع" و"بيبي الثاني" حوالي 2200 قبل الميلاد، وحرص "حرخوف" على تسجيل وقائع رحلاته في مقبرته في أسوان، كما في هذا المقتطف من نص كامل نقلته إلى الفرنسية عن اللغة المصرية القديمة العالمة كلير لالويت في دراستها "الفراعنة في مملكة مصر زمن الملوك الآلهة":
"أرسلني سيدي صاحب الجلالة مر-إن-رع، في صحبة والدي، الصديق الأوحد، والكاهن المرتل إيري إلى بلاد يام لاستكشاف دروبها، أنجزت هذه المهمة في غضون سبعة أشهر، وجلبت منها شتى أشكال (الهدايا) الجميلة منها والنادرة ونلت من أجل ذلك المديح كل المديح".
لاحظ المصريون فيضان النيل وانحساره في أوقات مناسبة على نحو يمكن استفادة أرض مصر منها، إذ يفيض في الصيف والأرض في أشد الحاجة إلى الماء، يغمرها ويجدد حياتها، وينحسر في وقت يناسب الزراعة، فتُبذر الحبوب، فكانت بداية اهتداء المصريين لفكرة التقويم.
وضع المصريون ما يعرف اصطلاحا بـ"التقويم النيلي"، الذي يبدأ ببداية الفيضان، عندما تصل المياه إلى منطقة استراتيجية مهمة، ويعتقد العلماء أنها كانت منطقة تتوسط مدينتي "أونو" و"إنب حج"، كما لاحظ المصريون اقتران الحدث بظاهرة سماوية هي ظهور نجم الشعرى اليمانية.
ويقول العالم الفرنسي نيقولا غريمال في دراسته "تاريخ مصر القديم": "كانت نقطة الانطلاق لتحديد بداية العام الجديد هي قياس ارتفاع منسوب مياه الفيضان، وما يُسجل عند مستوى مدينة منف، وهي الأرض التي شهدت توحيد البلاد على ما يفترض، ويتفق تماما مع ظهور نجم الشعرى اليمانية، وفقا للتقويم اليولياني، وتحدث هذه الظاهرة في 19 من شهر يوليو/تموز".
أحصى الفلكيون المصريون عدد الأيام بين كل ظهور للنجم فوجدوها 365 يوما، وقسموها إلى 12 شهرا، كما قسموا السنة إلى ثلاثة فصول تحددت بناء على أحوال النيل: "آخت" وهو فصل الفيضان وبذر البذور، من منتصف يوليو/تموز إلى منتصف نوفمبر/تشرين الثاني، و"برت" وهو فصل النمو، ويوازي فصل الشتاء، ويبدأ من منتصف نوفمبر/تشرين الثاني إلى منتصف مارس/آذار، و"شمو" فصل حصاد الزرع، من منتصف مارس/آذار إلى منتصف يوليو/تموز.
ويقول الفرنسي فاندييه إن الماء في الفكر الديني المصري القديم "يمثل عنصرا أساسيا منه تخرج الحياة الجديدة، وإلى المحيط الأزلي تؤول الشمس وقت الشفق، لتبث فيه قوة نشطة جديدة".
خصص المصريون القدماء عددا من الأرباب ارتبطوا بنهر النيل أشهرهم الإله "حعبي"، الذي يمثل فيضان النيل سنويا، ومصدر الحياة الأولى عموما (بداية الخلق) ومصدر الحياة الأولى للمصري القديم.
ساعد النيل المصريين في تكوين مجتمعات صغيرة، يتعاون أفرادها في زراعة ما بها من أراض، وأحيانا كانوا يلجأون إلى توسيع حدودها بالاستيلاء على أراض المجتمعات المجاورة، إلى أن اندمجت هذه المجتمعات وشكلت كيانا أكبر اتحد في عهد الملك "نعرمر (مينا) " فظهر أول شكل مترابط سياسيا واجتماعيا للأراضي المصرية بفضل النيل.
عرف المصريون أيضا، إلى جانب الزراعة التي اعتمدت على مياه النيل، صيد الأسماك، فابتكروا القوارب كوسيلة للصيد والمواصلات، وسجّلوا العديد من المشاهد المائية على جدران المقابر، التي كانت توضع بداخلها أسماك النيل لتقديمها قرابين من المتوفى في العالم الآخر.